الأمم المتحدة في عامها الثمانين

بقلم الشيخة / سهيلة فهد الصباح
يأتي يوم الرابع والعشرين من أكتوبر من كل عام ليحمل معه ذكرى خالدة في تاريخ الإنسانية، فهو اليوم الذي شهد دخول ميثاق الأمم المتحدة حيز التنفيذ عام 1945، معلنًا ميلاد مرحلة جديدة من التعاون الدولي بعد حربين مدمرتين أنهكتا العالم. ويُعد هذا اليوم فرصة سنوية للتأمل في مسيرة منظمة شكّلت منذ تأسيسها رمزًا للوحدة والأمل، ومنبرًا للدفاع عن الكرامة الإنسانية، وإطارًا جامعًا يجسد إرادة الشعوب في بناء عالم يسوده السلام والعدالة والمساواة.
ومنذ ثمانية عقود، ظلت المنظمة الدولية تؤدي دورها المحوري في حفظ السلم والأمن، وفي تعزيز حقوق الإنسان، وفي ترسيخ مفهوم التنمية المستدامة بوصفها السبيل الأمثل للنهوض بالمجتمعات، إذ ساهمت عبر برامجها ومبادراتها في تحسين حياة الملايين في مختلف القارات، ووفرت فرص التعليم والرعاية الصحية، ومدّت يد العون إلى الشعوب المتضررة من الكوارث والنزاعات، وأثبتت أن العمل الجماعي هو السبيل الوحيد لمواجهة التحديات التي تتجاوز حدود الدول.
ومع بلوغها عامها الثمانين، تجد المنظمة نفسها أمام عالم يتغير بسرعة مذهلة، وتتسارع فيه التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية على نحو لم يشهده التاريخ من قبل، ولذلك فهي تعمل على تجديد أسس التعاون الدولي من خلال رؤى ومبادرات طموحة تهدف إلى ترسيخ التعددية وتعزيز العدالة والتنمية والسلام، بما يضمن أن تبقى قادرة على مواكبة احتياجات الشعوب في القرن الحادي والعشرين.
ويحمل يوم الأمم المتحدة دلالة رمزية عميقة تتجاوز الاحتفال البروتوكولي، فهو تذكير دائم بأن البشرية، على اختلاف ثقافاتها وأديانها ومصالحها، تشترك في مصير واحد، وأن التحديات التي تواجه العالم اليوم ـ من أزمات المناخ والفقر والأمن الغذائي إلى النزاعات المسلحة والتدهور البيئي ـ لا يمكن لأي دولة أن تتصدى لها بمفردها، بل لا بد من تعاون دولي صادق يستند إلى مبادئ المساواة والاحترام المتبادل والمصلحة المشتركة.

ولذلك فإن الذكرى الثمانين لتأسيس المنظمة تمثل لحظة تأمل ومراجعة، إذ يتعين على المجتمع الدولي أن يعيد النظر في آليات العمل المشترك وأن يطور أدواته لتصبح أكثر استجابة للتغيرات الراهنة، وأن يسعى نحو إصلاح مؤسساته بما يحقق عدالة أوسع في تمثيل الدول ويضمن مشاركة الجميع في صنع القرار العالمي. فالعالم اليوم يقف على مفترق طرق، ولا بد من إرادة جماعية تحافظ على روح الميثاق الأممي التي قامت على الإيمان بكرامة الإنسان وحقه في العيش بحرية وأمن وسلام. وفي هذا الإطار، يتجدد التأكيد على أهمية التمسك بالمبادئ التي وُلدت من رحم التجارب الإنسانية القاسية، والتي أكدت أن السلام لا يقوم إلا على العدالة، وأن التنمية لا تزدهر إلا في بيئة من التعاون والتفاهم، وأن حقوق الإنسان تظل الركيزة الأساسية لأي مجتمع يسعى نحو التقدم. ومن هنا، تأتي دعوة هذا العام تحت شعار «لنبنِ مستقبلنا معًا» لتوحّد الجهود نحو مستقبل أكثر إشراقًا يحقق التوازن بين التنمية والكرامة والبيئة.
ويعكس هذا اليوم في جوهره تطلع الشعوب إلى نظام دولي أكثر إنصافًا وشفافية، وإلى مؤسسات أكثر قدرة على حماية الضعفاء وصون الكرامة الإنسانية، وإلى تعاون يقوم على الشراكة لا على الهيمنة، وعلى الحوار لا على الصراع. كما أنه مناسبة لتجديد الالتزام بالمسؤولية المشتركة تجاه كوكب الأرض الذي يواجه اليوم أخطر التحديات في تاريخه الحديث، من تغيرات مناخية متسارعة إلى ندرة الموارد الطبيعية واتساع الفجوة الاقتصادية بين الشعوب.
إن الاحتفال بيوم الأمم المتحدة لا يعني الوقوف عند حدود الذكرى التاريخية، بل هو تأكيد على أن مسيرة الإنسانية نحو السلام والتنمية لا تزال مستمرة، وأن الأمل في عالم أكثر عدلًا وأمنًا لا ينقطع مهما اشتدت الأزمات. فهو يوم يُعيد إلى الأذهان حقيقة أن التضامن الإنساني هو السبيل الوحيد لمواجهة ما يعصف بالعالم من أزمات، وأن المستقبل لن يُبنى إلا بتكاتف الجميع من أجل الأجيال القادمة التي تستحق أن ترث كوكبًا يسوده الوئام والاستدامة. وهكذا، فإن هذه المناسبة العالمية تظل نداءً متجددًا لإحياء روح الميثاق الأممي، وترسيخ قيم التعاون الدولي، وتأكيد الإيمان بأن ما يجمع البشرية أكبر مما يفرقها، وأن بناء المستقبل المشترك هو مسؤولية الجميع دون استثناء، في عالم يتسع بالسلام، وينهض بالعدالة، ويزدهر بالأمل.
وفي هذا الإطار تلعب دولة الكويت دورًا رائدًا ومتميزًا بوصفها عضوًا بمنظمة الأمم المتحدة في تعزيز قيم التعاون الدولي والمشاركة الفاعلة في المساعي الإنسانية والتنموية، حيث تمثل شريكًا ملتزمًا بالجهود العالمية الرامية إلى تحقيق السلام والاستقرار والتنمية المستدامة. فقد حرصت على ترسيخ مبادئ الحوار والتفاهم والتعاون بين الدول، ووفرت الدعم المستمر للمبادرات التي تهدف إلى تخفيف معاناة المحتاجين والمتضررين من النزاعات والكوارث، وهو ما جعلها نموذجًا يحتذى به في الالتزام الأخلاقي والإنساني على الصعيد الدولي.
وتتجلى مساهمتها في العديد من المجالات الحيوية، إذ لم تقتصر على تقديم الدعم المالي والمساعدات الإنسانية فحسب، بل شملت أيضًا المشاركة الفاعلة في وضع السياسات والخطط التي تصب في خدمة التنمية المستدامة وتعزيز حقوق الإنسان، والعمل على حماية الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمعات. كما ساهمت الكويت في تعزيز الشمول الاجتماعي، وتمكين الشباب والمرأة، ومكافحة الفساد، والحد من الكوارث، بالإضافة إلى العمل على محاربة الجريمة المنظمة والاتجار بالبشر، بما يعكس إدراكها العميق بأن الاستقرار العالمي يتطلب مقاربة شاملة ومتكاملة لكل القضايا الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية.
وبجانب الدور الإنساني، تواصل الكويت دعمها للسلام وحل النزاعات بالطرق السلمية، إذ تحرص على تقديم رؤى بنّاءة لتعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي، وتحافظ على التزامها بمبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان، كما تعمل على تقوية التعاون متعدد الأطراف لتعزيز العدالة والمساواة بين الدول. وتُظهر هذه الجهود التزام الكويت الراسخ بأن بناء عالم أكثر أمانًا وعدلًا واستدامة ليس مجرد شعار، بل مسؤولية عملية تتطلب التحرك المستمر والتنسيق الوثيق مع المجتمع الدولي.
وعلى صعيد المبادرات الكبرى، تسعى الكويت إلى استضافة وتعزيز الفعاليات والبرامج التي تسلط الضوء على القضايا الإنسانية والتنموية، وتشجع على تبادل الخبرات وتعزيز التعاون بين الدول والمؤسسات المختلفة، بما يسهم في تطوير الحلول العملية للتحديات العالمية، ويؤكد على دورها المحوري كجسر للتفاهم والتضامن بين الشعوب.
إن مساهمة الكويت المتواصلة في هذه المسيرة تجعلها مثالاً حيًا على التزام الدول الصغيرة بحماية القيم الإنسانية الكبرى، وتثبت أن الإرادة الصادقة والعمل المخلص قادران على صنع فرق ملموس في حياة الملايين، وهو ما يعزز من مكانتها كشريك استراتيجي موثوق في مساعي بناء عالم يسوده السلام، وتظل رسالتها العالمية رسالة أمل مستمرة، تواكب كل تحدٍ جديد، وتشد على أيدي كل من يسعى لبناء مستقبل مشترك يعمّ فيه الأمن والازدهار والكرامة الإنسانية.





